فاجأ الرئيس عبد
الفتاح السيسي و فريقه الشعب المصري بخبر تغيير العاصمة إلى مدينة جديدة، تُبنى
خلال العقدين القادمين، ولم يكُن للأمر مقدمات، ولم يتضمنه البرنامج الانتخابي
لرئيس الجمهوري. وعُرضت فكرة العاصمة أمام الحضور في المؤتمر في هيئة فيديو، على طراز
فيديوهات شركات التنمية العقارية الحديثة، وخلا الشرح من الآلية التي سيتم بها
تغيير العاصمة دستوريًا و قانونيًا.
على مر التاريخ،
غيَّرت العديد من الدول عواصمها لأسباب استراتيجية و اقتصادية عديدة. فبعض الدول
غيرَّت عواصمها من مدن ساحلية الي مدن اخرى في عُمق الدولةــ لتحافظ على العاصمة
من السقوط في حالة الهجوم من البحر.
ونقلت بعض الدول عواصمها
إلى مدن بنتها خصيصًا لتكون العاصمة الجديدة للبلاد، نظرًا لأسباب سياسية أو
عِرقية في بقية المدن الاخرى. ومن أهم الدول التي قامت بذلك الولايات المتحدة، والتي
نقلت عاصمتها من فيلاديفيا إلي واشنطن العاصمة، وأستراليا التي نقلت العاصمة من
ميلبورن إلى كنبرا، ونيجيريا التي نقلت عاصمتها من لاجوس إلى أبوجا.
أمَّا في العصور
الحديثة، فتتشابه فكرة العاصمة المصرية الجديدة مع فكرة ’جوزيه بونيفاسيو‘، صاحب
فكرة تغيير العاصمة البرازيلية من ريو دي جانيرو الي مدينة برازيليا، التي ستحتفل
في الشهر القادم بمرور 55 عاما على تأسيسها.
لم يرَ ’بونيفاسيو‘ برازيليا
أبدًا، لأنَّ فكرته ترجع إلى عام 1829، عندما عرض فكرة العاصمة الجديدة على الملك
’بيدرو‘ الذي رفضها، وانضم ’بونيفاسيو‘ بعد ذلك إلى صفوف المعارضة، ونُفي إلى فرنسا.
وبعد أكثر من 100 عام
من تلك الواقعة، وفي أجواء أكثر حرية و ديموقراطية، انتُخب ’جوسينو كوبيتشتك‘،
وأمر ببناء مدينة برازيليا تنفيذًا لوعده الانتخابي، وصمَّم المعماري ’لوشيو كوستا‘
المدينة، التي أصبحت واشنطن أمريكا اللاتينية، وأبهرت البرازيل العالم أجمع معماريًا
و حضاريًا.
لا تتعدى الفكرة
المطروحة حتى الآن فكرة مشروع استثمار عقاري ضخم للغاية، لدرجة تجعله أقرب لفكرة
خيالية من وجهة النظر الإدارية و الهندسية. فمن المستحيل على أي شركة مشروعات أن تتحكم
في مشروع بهذا الحجم. وسيؤدي ذلك الى قيام المطوِّر بتقسيم المشروع إلى أكثر من 20
مشروعًا، لتتمكن من ادارتهم. وأتوقع أن تصل تكلفة الإدارة، وخدمات الاستشارات
الهندسية للمشروع، إلى 30 مليار دولار، وأن تبلغ تكلفة الانشاءات نحو 115 مليار
دولار.
قبل الحديث عن تكلفة
الادارة و الانشاء للمشروع هناك عدة اسئلة موجهة للدولة، يتعين عليها أن ترد عليهم
في أقرب وقت.
فالسؤال
الأول، وبناء على ما هو مٌعلن على الموقع الاليكتروني، فإنَّ المطوِّر شركة كابيتال
سيتي، وهي ليست أكثر من موقع إليكتروني، وليست كيانًا حقيقيًا، يُقدم معلومات عن محمد
العبار. ولكن أي مشروع عقاري يجب ان يكون له شركة تطوير، و مجلس إدارة تتكون
عضويته من ممثلي الشركات المساهمة. فهل هذا الكيان هو وزارة التخطيط؟ أم وزارة الاستثمار؟
أم شركة منبثقة من الوزارتين معًا؟ ومن الممثل عنهم في شركة كابيتال سيتي؟
فالمشروع الاقرب لمشرع
كابيتال كايرو هو مشروع مشيرب قلب الدوحة مع فارق الحجم الشاسع بين المشروعين، ومنذ أن وُلدت فكرة المشروعـ أُعلن أنَّ
المطوِّر شركة مشيرب العقارية المملوكة لمؤسسة قطر فاونداشن، المملوكة للدولة. وترأست
الشيخة موزة مجلس ادارة الشركة، وأُعلن عن هوية المشروع، وعن الرؤية التي صُمِّم
على أساسها. فهل يمكن للوزارة أن تُجيب عن أي أشئلة بشأن هوية المعماري الذي صمَّم
المدينة؟
يبدأ أي تصميم
جديد لمشروع عمراني بما يُسمى بأُسس التصميم. وهو اجتماع يحضره المالك، الدولة في
هذه الحالة، مع مهندسين من جميع القطاعات و الصناعات، لكتابة ما يسمى بـ Basis Of Design، وفي هذه الحالة، وبما أننا نتحدث عن عاصمة
مصر، فمن الواجب أن يحضر تلك الجلسات أساتذة العمارة و هندسة الطرق والكباري بجامعات
مصر، ومندوبي وزارات النقل والدفاع والري، وأساتذة الاستدامة في المراكز البحثية
المصرية، وأن يُشارك
الجميع في وضع أُسس التصميم المطلوبة، ليتمكن منها المكتب المعماري المصمم، ثم يبدأ
في التصميم.
يستحيل أن تكون أي
عقلية مصرية قد شاركت في التصميم الموجود، أو أن يكون قد طُرح للمناقشة مع أي فنان
أو معماري مصري. فالتصميم ما هو إلا تصميم مستقبلي، على غرار التصميمات التي
عرضتها الشركات على شيوخ و مستثمري الخليج يوميًا خلال فترة بناء ناطحات السحاب
التي اجتاحت الخليج. التصميم المعروض يقتل هوية المعمار المصري على مر تاريخه. فلا توجد أي
لمسة معمار فرعوني، أو إسلامي، أو حتى أوروبي. فالتصميم خليجي إماراتي خالص، لا يصلح
إلا لمدن الصحراء العربية.
فاذا كنا نريد عاصمة
جديدة حقًا، علينا التعلم من مشروع اصغر بكثير هو مشيرب قلب الدوحة، الذي حافظ في التصميم المعماري والداخلي
لجميع المباني و الفنادق المصممة على الهوية المعمارية لمنازل الدوحة القديمة
الطينية البسيطة.
أمَّا السؤال الثاني،
فيتعلق بالأمور التعاقدية. إذ أنَّ الفيديو المعروض للعاصمة المصرية يبدو كأنه ليس
إلا تصميمًا ترويجيًا لمدينة خليجية جديدة، جاءت به إحدى شركات التطوير العقاري الإماراتية،
والتي أجمع الجميع على أنَّها شركة إيجل هيلز الإماراتية.
ورفضت شركة إعمار الرد
على أي أسئلة تتعلق بمشروع كابيتال كايرو، إلا أنَّ وجود محمد العبار، مؤسس الشركة
و مؤسس إيجل هيلز في المؤتمر، يجعل علاقة إيجل هيلز بكابيتال سيتي علاقة ملكية.
مما يعني أنَّ الأمر يشوبه تجاوزات قانونية و تعاقدية صارخة من الجانب المصري الذي
لم يعلن عن أي تفاصيل بشأن سعر الأرض. ومن ثمَّ، يُصبح التوقيع علي صفقة بيع الارض
لشركة إيجل هيلز، بغرض إنشاء مشروع عقاري، دون أي إعلان عن قيمة الصفقة، تجاوز
قانوني صارخ. فإعلان الدولة أنَّ مشروعًا استثماريًا أجنبيًا سيصبح العاصمة
المصرية الإدارية، دون استفتاء أو وجود برلمان، سيٌجبر السيسي على الوقوف أمام
البرلمان بعد انتخابه/ بل وربما أمام القضاء المصري، مدافعًا عن الصفقة أو
مُتَّهمًا بشأنها. أمَّا الجانب الإماراتي، فيبدو أنًّه لم يتعلم من خطأ حسين
اسميك فيما يتعلق بخوض مشروعات غير مدروسة.
أمَّا السؤال الثالث،
فيتعلق بادِّعاء مصر أنَّ المشروع الذي ستطوره شركة أجنبية لن يُكلف الدولة مليمًا
واحدًا، وأنَّ الشركات الخاصة ستتكفل بالتطوير العقاري. أمر يتعارض بديهيًا مع كون
المشروع عاصمة إدارية لمصر. فهل سيتبرع المطور الاماراتي للدولة بجميع مباني
الوزارات و المحاكم و الخدمات؟ وهل سيتبرع بمباني المستشفيات الحكومية والمدارس و
الجامعات المفتوحة والمدعومة؟ وهل سيتبرع بمباني الإدارات الفرعية و الشهر العقاري
و أقسام الشرطة و الإسعاف و المطافئ و البورصة و البنك المركزي؟ وأيضًا، يتضمن التصميم
مطارًا صخمًا للغاية، فلماذا نحتاج إلى مطار في هذه المدينة؟ وهل سيكون خاصًا بمصر
للطيران أم بطيران الإمارات؟ وهل ستتحمل مصر للطيران تكاليف الانشاء و الإدارة؟
فهل سيتبرع المطور الإماراتي بما يعادل 30% من تكلفة إنشاء
المباني الإدارية في المشروع، أم هل ستضطر الدولة إلى تأجير مباني عاصمتها من شركة
اجنبية؟
وفي
النهاية، أتمنى أن تكون العاصمة الجديدة كبرازيليا، إن اكتمل المشروع بعد إعادة
التصميم وإصلاح الأمور إداريًا. فمدينة برازيليا من المدن الحديثة والقوية
اقتصاديًا إلى حد كبير، وتحتل المركز الأول في الناتج المحلي الإجمالي للفرد بين
مدن امريكا اللاتينية. وعلى الرغم من أنَّها واجهت نقدًا شديدًا لحداثة تصميمها،
إلا أنَّها حافظت على هوية البرازيل الثقافية والحضارية.
وإن لم
يُكتّب للعاصمة الجدية أن ترى النور، أتمنى أن يطويها النسيان إلى الأبد، وأن
يتركَّز الاستثمار والإنفاق على المدن الموجودة بالفعل، وأن تُفرَض مجموعة من القوانين
لكل مدينة، لتتحول إلى عاصمة في نشاط مختلف، وبدلًا من نموذج العبَّار و المدن الأسمنتية
غير المدروسة، يمكن أن نختار نموذج مدينة بانجلور الهندية. لأنَّ صُنَّاع القرار
يجب أن يتفهموا طبيعة بلدهم، واستحالة
نجاح أي نموذج خليجي فيها. وعليهم أن يتعلموا من النموذج الهندي، وهو أقرب كثيرًا
إلى واقعنا.
ومدينة بانجلور
هي السيليكون فالي الهندية، "مكة" المبرمجين و رواد الاعمال وشركات رأس
المال المغامر venture capitals في الهند. وفي عام 1971، كان عدد سكان
بانجلور أقل من 2 مليون نسمة، ويقارب عددهم الآن 10 مليون نسمة، وتُعتبر رابع أكبر
مدينة اقتصادية في الهند، بإجمالي ناتج محلي يبلغ 83 مليار دولار. في احد مباني بانجلورعام 2007،
أسَّس مهندس برمجة هندي يُدعى ’شاسين بانسال‘ موقع فليب كارت لبيع الاجهزة الاليكترونية على الانترنت، يُتوقَّع أن
تبلغ قيمة فليب كارت في عام 2020 قرابة 100 مليار دولار، قيمة تقارب تكلفة انشاء العاصمة الجديدة.
بانجالور في اوائل التسعينات كانت مدينة بسيطة لا تختلف عن مدن مصرية كثيرة. كانت مدينة تتميز بطابع محافظ من الغالبية الهندوسية و الاقلية المسلمة فيها. تمثل العديد من المدن المصرية عبء اقتصادي على الدولة من خلال الخدمات و الدعم المقدم لهم دون المساهمة في الناتج المحلى بأي قيمة تذكر. تتوافرفي العديد من المدن البنية التحتية الاساسية التي يحتاجها رواد الاعمال لبدء اعمالهم بتكلفة منخفضة. يجب ان تشجع الدولة على خروج بعض الانشطة الاقتصادية من القاهرة الي مدن اخرى, فبدلا من انفاق المليارات على عاصمة جديدا, يمكن تخصيص ميزانية خاصة للمحافظات لتعيين شركات متخصصة لدراسة ظروف المدن و لجذب الاعمال و الصناعات اليها. لتصبح كل مدينة بانجالور مصرية و تساهم في اتساع رقعة الاقتصاد في الدولة.
فإذا كانت
المشكلة أنَّ القاهرة أصبحت من وجهة نظر صُنَّاع القرار مدينة نافقة و يصعب الحياة
فيها، فإنَّ الحل يبدأ من إصلاح القاهرة، وليس التخلص منها. ولن يتأتى إصلاح
القاهرة إلا عن طريق استكمال خطة النظام السابق في تطوير/استطباق Gentrification أحياء المدينة، خاصة
الحياء الثرية ثقافيًا وعمرانيًا. ودائمًا ما تواجه عملية التطوير تلك موجات غضب
يسارية، ولكنها الحل الوحيد للحفاظ علي تراث القاهرة و تغيير الطبيعة السكانية و
الأنشطة التجارية لأحيائها، تلك الأحياء التي دمَّرها التشدد الديني و الهجرة الداخلية.
وتضمن عملية التطوير وجود نشاط و طبيعة سكانية و هوية لكل حي من أحياء القاهرة،
وأجمل مثال لما أتحدث عنه هو ما حدث في حي ’ويليامزبيرج‘ في بروكلين، والذي كان من
أحياء الجريمة في التسعينات، وأصبح أهم بقعة سياحية في نيويورك بعد عملية التطوير
التي خضع لها بين عامي 2000 و2005، عملية غيَّرت الطبيعة السكانية للحي، وجعلته عاصمة
مدارس عديدة للفنون و الموسيقى.
وأخيرًا،
لن يُغادر المصريون قاهرة المعز، مفضِّلين عليها مدينة اسمنتية زجاجية خليجية على أرض
مصرية. فالقاهرة مدينة خالدة، يستحيل التخلص منها ببناء مدينة أخرى تسرق بريقها.
وإن افترضنا إمكانية حدوث ذلك، فيجب أن تكون مدينة تُصمِّمها أنامل مصرية، تحترم
التراكمات الثقافية و الحضارية للمدينة، وتحترم تنوع سكانها واختلاف اهتماماتهم.
وستبقى القاهرة خالدة، أمَّا التصميم الخليجي، إذا خرج إلى النور على الإطلاق، فلن
يعدو أن يكون مدينة أشباح.